خطبة الجمعة للشيخ علي الصددي – ٢٤/ ٨/ ١٤٤٤هـ الموافق 17 مارس 2023م جامع الإمام الصادق(ع) – الدراز
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الخطبة الأولى:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمدُ للهِ الَّذي مِن خَشيَتِهِ تَرعَدُ السَّماءُ وَسُكَّانُها، وَتَرجُفُ الأرضُ وَعُمَّارُها، وَتَموجُ البِحارُ وَمَن يَسبَحُ في غَمراتها، الحَمدُ للهِ الَّذي هَدانا لِهذا، وَما كُنا لِنَهتَديَ لَولا أن هَدانَا اللهُ.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما شهد الله لنفسه وشهدت له ملائكته وأولوا العلم من خلقه لا إله إلا هو العزيز الحكيم وأشهد أن محمدا عبده المصطفىورسوله المرتضى أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
عباد الله وأهل طاعته، أوصيكم ونفسي بتقوى الله وخشيته في الليل والنهار والسرّ والجهار، فقد وعد من يخشاه بالغيب فقال- ولا خلف لقوله ولا تبديل-: “إنَّ ٱلَّذِينَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٞ” الملك: ١٢.
ثم إنّ التقوى واحدة من أهداف العبادة- بصورة عامّة- قال الله سبحانه: “يَأ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ”- البقرة: ٢١-، ولتشريع العبادة حكمة يراد للعبد والعابد أن يصل إليها وهي التقوى، ومن شأن العبادة أن تثمر التقوى، والعبادة- بحسب تعبير أهل العلم- مقتض للتقوى؛ ولذا جاء التعبير: (لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ).
وكما أنّ عبادة الله مطلوبة، فكذا تقواه سبحانه- هي الأخرى- مطلوبة، وأنّ امتثال أمر العبادة وموافقته لا يعفي العبد عن امتثال أمر التقوى وعن موافقته؛ قال الله سبحانه: “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرۡ قَوۡمَكَ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ :: قَالَ: يَٰقَوۡمِ إِنِّي لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٌ :: أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُوَأَطِيعُونِ”- نوح: ١- ٣-، وقال سبحانه: “وَإِبۡرَٰهِيمَ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُۖ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ”- العنكبوت: ١٦-، هذا. وقد خصّ الكتاب العزيز واحدة من بين سائر العبادات، وهو الصيام، وذكر بأنّه يقتضي التقوى، وأنّ من شأنه أن ينتجها ويغذّيها، وأنّ التقوى حكمة من حكم تشريعه، قال الله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ”-البقرة: ١٨٣-، فإنّ الصيام لمّا كان عبادةً صامتة غير مكشوفة للآخرين، تتحرّك بين العبد وربّه سبحانه، فهي أقرب من غيرها من العبادات لئن تكون خالصةً بلا شوب رياء ولا سمعة، ومخلَصة لا يُشرك فيها مع الله سبحانه غيرُه، فهي بهذا تعمّق ُالعلاقة بالله، وتجذّر حضوره، وتركّز قُربه، ويخرج العبد بها ومنها شديد الخشية من الله، عظيم المخافة منه، يتّقي أخذه وعقوبته، يخشاه في السرّ كما في العلانية، وهذه آية وعلامة تقواه، قال الله سبحانه: “وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ٱلۡفُرۡقَانَ وَضِيَآءٗ وَذِكۡرٗا لِّلۡمُتَّقِينَ :: ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَهُم مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشۡفِقُونَ” الأنبياء: ٤٨، ٤٩- فذكر لصدق التقوى علامة يتعرفون هذا الصدق من أنفسهم.
ثمّ ما دامت التقوى حكمة الصيام وهو مقتض لها فحريٌّ بالصائم أن يستفرغ وسعه وطاقته في التحقّق بالتقوى، بأن يتوفّر على شرط تحقّق التقوى، وأن يكسح المانع من تحقّقها، وحقيق بالصائم أن يستطرق بصومه وأن يتّخذ منه سلّماً للوصول إلى تقوى الله ومخافته، وأن لا يعود الصوم محض ترك للطعام والشراب- مثلاً- مع ضياع هدفه والغاية منه، بل ما دامت تقوى الله هي هدف الصيام، فحريّ بالصائم أن لا تقلّ همّته وسعيه في بلوغ الهدف من الصيام عن همّته وسعيه في الإتيان بالصيام، وليعلم أنّه بضياع هدف الصيام يضيع نفس الصيام، ولا قيمة للصيام إذا ما فرّغ من هدفه وقضي عليه، ففي كتاب (التهذيب) لشيخ الطائفة الشيخ الطوسيّ (رضي الله عنه) بسنده عن جرّاح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:” إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، ثمّ قال: قالت مريم: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) إي صمتا، فإذا صمتم فاحفظواألسنتكم، وغضّوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، قال: وسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) امرأة تسابّ جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطعام، فقال لها: كلي فقالت: إني صائمة فقال: “كيف تكونين صائمة!!؟ وقد سببت جاريتك، إن الصوم ليس من الطعام والشراب”.
هذا. وإذا كانت جملة أمور مطلوبة في شهر رمضان إلى جانب الصيام كتلاوة كتاب الله والدعاء والتوبة والاستغفار والصدقة وإكثار الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله)- فإن تقوى الله ومخافته والورع عن محارمه- هي الأخرى-مطلوبة، بل هي أفضل الأعمال في شهر رمضان؛ ففي خطبة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)- الّتي رواها أمير المؤمنين (عليه السلام)، والّتي افتتحت بـ “أيّها الناس إنّه أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة”-، ففي آخرها قال الأمير(عليه السلام): (فقمت فقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله- عزّ وجلّ-).
وأسوق لكم في هذا المقام قصة نتبيّن من خلالها تقوى الله ومخافته وأثرها على النفس وعلى الغير، فقد روى ثقة الإسلام الكليني (رضي الله عنه) في روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (صلوات الله عليهما) [قال:] إن رجلا ركب البحر بأهله فكسر بهم، فلم ينج ممن كان في السفينة إلا امرأة الرجل، فإنها نجت على لوح من ألواح السفينة حتى ألجأت على جزيرة من جزائر البحر وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق ولم يدع لله حرمة إلا انتهكها فلم يعلم إلا والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها فقال: إنسية أم جنية؟ فقالت: إنسية فلم يكلمها كلمة حتى جلس منها مجلس الرجل من أهله، فلما أن همّ بها اضطربت، فقال لها: مالك تضطربين؟ فقالت: أفرق من هذا- وأومأت بيدها إلى السماء – قال: فصنعت من هذا شيئا؟ قالت: لا وعزته، قال: فأنت تفرقين منه هذا الفرق ولم تصنعي من هذا شيئا وإنما أستكرهك استكراها فأنا والله أولى بهذا الفرق والخوف وأحق منك، قال: فقام ولم يحدث شيئا، ورجع إلى أهله وليست له همّة إلا التوبة والمراجعة، فبينا هو يمشي إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس فقال الراهب للشاب: ادع الله يظلنا بغمامة، فقد حميت علينا الشمس، فقال الشاب: ما أعلم أن لي عند ربي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئا، قال: فأدعو أنا وتؤمن أنت؟ قال نعم فأقبل الراهب يدعو والشاب يؤمن، فما كان بأسرع من أن أظلتهما غمامة، فمشيا تحتها مليا من النهار، ثم تفرقت الجادة جادتين فأخذ الشاب في واحدة وأخذ الراهب في واحدة فإذا السحابة مع الشاب، فقال: الراهب أنت خير مني، لك استجيب ولم يستجب لي فأخبرني ما قصتك؟فأخبره بخبر المرأة فقال: غفر لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل.
اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الكَهفِ الحَصينِ وَغياثِ المُضطَرِّ المُستَكينِ وَمَلجَأ الهارِبينَ وَعِصمَةِ المُعتَصِمينَ.واغفر لنا ولجميع المؤمنين، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم، اللهم إنّا نحبّ محمّداً وآل محمد فاحشرنا معهم، اللهم إنّا نحبّ عمل محمّد وآل محمّد فأشركنا في عملهم، اللهم أرنا في آل محمّد (عليهم السلام) ما يأمَلون، وفي عدوّهم ما يحذرون، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وأحلل غضبك بالقوم الظالمين.
إنّ أحسن الحديث كتاب الله العزيز: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ” بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .. وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” (3).
…………………………………………………………………….
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا لا ينبغي إلا له، ولا يتقرّب به إلا إليه، حمدا يستدام به الأول، ويستدعى به دوام الآخر، حمدا يتضاعف على كرور الأزمنة، ويتزايد أضعافا مترادفة، حمدا يعجز عن إحصائه الحفظة، ويزيد على ما أحصته في كتابه الكتبة، حمدا يوازن عرشه المجيد، ويعادل كرسيّه الرفيع، حمدا يكمل لديه ثوابه، ويستغرق كلّ جزاء جزاؤه، حمدا ظاهره وفق لباطنه، وباطنه وفق لصدق النيّة فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي، وهو على كل شئ قدير إلها واحدا أحداً صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يشرك في حكمه أحدا، رب كل شئ، ربنا ورب آبائنا الأولين.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله)، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ارتضاه لنفسه، وانتجبه لدينه، واصطفاه على جميع خلقه لتبليغ الرسالة بالحجة على عباده، فصلى الله عليه وعلى الأخيار من أهل بيته، والسلام عليه وعليهم ورحمةالله وبركاته.
عباد الله وإماءه، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله ونبيّه وأوصيائه (صلوات الله عليهم)، وبالتقوى يكون النجح والفلاح، قال الله سبحانه: “..وَٱتَّقُواْٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ” البقرة: ١٨٩
اللهم صلّ على محمد خاتم النبيّين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عَليٍّ أميرِ المُؤمِنينَ وَوَصيِّ رَسولِ رَبِّ العالَمينَ وعَلى الصِّدّيقَةِ الطَّاهِرَةِ فِاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِساءِ العالَمينَ، وَصَلِّ عَلى سِبطَي الرَّحمَةِ وَإمامَي الهُدى الحَسَنِ وَالحُسَينِ، وَصَلِّ عَلى أئِمَّةِ المُسلِمينَ عَليِّ بنِ الحُسَينِ وَمُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ وَجَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ وَموسى بنِ جَعفَرٍ وَعَليِّ بنِ موسى وَمُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ وَعَليِّ بنِ مُحَمَّدٍ وَالحَسَنِ بنِ عَليٍّ وَالخَلَفِ الهادي المَهدي، حُجَجِكَ عَلى عِبادِكَ وَاُمَنائِكَ في بِلادِكِ صَلاةً كَثيرَةً دائِمَةً.
اللهُمَّ وَصَلِّ عَلى وَليِّ أمرِكِ القائِمِ المُؤَمَّلِ وَالعَدلِ المُنتَظَرِ وَحُفَّهُ بِمَلائِكَتِكَ المُقَرَّبينَ وَأيِّدهُ بِروحِ القُدُسِ يا رَبَّ العالَمينَ. اللهم واحفظ وسدّد وأيّد نوّابه بالحقّ، والفقهاء العدول، والعلماء العاملين.
أما بعد أيّها الملأ المؤمن فإلى عناوين
العنوان الأوّل: خشية الله بالغيب والإباحيات:
ما الذي تتابعه- يا عبد الله ويا أمته- إن عبر الفضائيات أو المواقع الإلكترونية خلسةً تخشى الفضيحة، وتحتشم الصغير والكبير، وستر الله مرخى عليك، لم تعبأ باطّلاعه وإحاطته؟؟: “أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ” العلق: ١٤-؟؟،
بلى؛ إذ “.. مَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ”- الأنعام: ٥٩-، وما دمت مؤمناً برقابة الله سبحانه لك فلم لم يأت سلوكك موافقاً لإيمانك هذا، بل كان على خلافه؟ “وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ..”- الأنعام: ٩١-، وروى ثقة الإسلام الكلينيّ (رضي الله عنه) بسنده عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسحاق خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية(ثم استترت عن المخلوقين بالمعاصي وبرزت له بها- كما في ثواب الأعمال للصدوق-)، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك (إليك).
العنوان الثاني: نداءات التوبة في موسمها:
وأكتفي في هذا المقام بذكر ما رواه رئيس المحدّثين الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) في كتابه: (عيون أخبار الرضا- عليه السلام-)- ١: ٥٦ باب٣١ ح١٩٨- بسنده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: دخلت على أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في آخر جمعه من شعبان فقال لي: يا أبا الصلت إن شعبان قد مضى أكثره، وهذا آخر جمعة منه، فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالاقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك، وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك؛ ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلَص لله عز وجل، ولا تدعن أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقدا على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنبا أنت مرتكبه إلا قلعت عنه، واتق الله وتوكل عليه في سرّ أمرك وعلانيتك (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر “اللهم إن لم تكن قد غفرت لنا فيما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه”؛ فإن الله تبارك وتعالى يعتق في هذا الشهر رقابا من النار لحرمة شهر رمضان.
العنوان الثالث: مهامّ شهر رمضان:
رسم لنا أيّها المؤمنون والمؤمنات جملة مهامَّ في شهر رمضان، منها ما هو فرديّ، ومنها ما هو اجتماعيّ، وقد ذكر جملة منها في خطبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)- الّتي رواها الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) في كتاب (العيون)- ٢: ٢٦٥ ب٢٨ ح٥٣- – بسند معتبر عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خطبنا ذات يوم فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ)، وأعرض من هذه الخطبة فقرات ثلاث:
:: الفقرة الأولى: (فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ):
فذكر (صلّى الله عليه وآله) هنا مهمّتين، إحداهما: صيام شهر رمضان، والثانية: تلاوة كتاب الله، وشهر رمضان كما هو شهر الصيام هو شهر تلاوة القرآن، وهو ربيع القرآن، فلا يجمل بالمؤمن أو المؤمنة أن يخرج عنهما شهر رمضان إلا وقد تلا وختم كتاب الله، ولأجل أن تختمه ضع نصب عينيك- إيّها المؤمن- ما يفهم من كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إذ يفيد بأنّ التوفيق لصيام شهر رمضان ولختم كتاب الله مظنّة غفران الله والسعادة.
:: الفقرة الثانية: (وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَغُضُّوا عَمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ وَعَمَّا لَا يَحِلُّ الِاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ أَسْمَاعَكُمْ وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ (كما) يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلَاتِكُمْ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ يَنْظُرُ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ..
فذكر(صلّى الله عليه وآله) هنا مهمّة ثالثة، وهي الدعاء مع رفع اليد به، وما أكثر حاجاتك، وما ألحّها، وما أغنانا بعد أن ترك لنا أهل البيت (عليهم السلام) تراثاً دعائياً ضخماً.
:: الفقرة الثالثة: ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ(تعالى ذكره) أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ الْمُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ وَأَنْ لَا يُرَوِّعَهُمْ بِالنَّارِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
فذكر(صلّى الله عليه وآله) هنا مهمّتين أخريتين- وهما الرابعة والخامسة بحسب ترتيبي- وهما الاستغفار والصلاة- ومن ضمنها السجود-، ولا تعدو عينيك عن ثوابهما، ومنه عدم الترويع بالنار يوم القيامة.
هذا ومن المهامّ في هذا الشهر ما جاء في أحد أدعية الصحيفة السجّادية، وهو دعاؤه (عليه السلام) لدخول شهر رمضان، ومنه قوله: (وَوَفِّقْنَا فِيهِ لِأَنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالبِرِّ وَالصِّلَةِ ، وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالإِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ ، وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَا ، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا ، وَأَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا ، حَاشَا مَنْ عُودِيَ فِيْكَ وَلَكَ ، فَإنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لَا نُوالِيهِ ، وَالحِزْبُ الَّذِي لَا نُصَافِيهِ ، وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إلَيْكَ فِيْهِ مِنَ الأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ ، بِمَا تُطَهِّرُنا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ):
فيلفتنا (عليه السلام) إلى قيمة عالية من قيم وآثار الأعمال الصالحة وهي التطهير من لوث الذنوب والمعاصي كي لا نرجع إليها؛ فإنّ التوبة منها وإن كانت تمحو التبعة والمؤاخذة، ولكنّ مخلّفات المعاصي على النفس ما لم يطهّر بالأعمال الزاكية فإن حظوظ العود إلى المعاصي تبقى قائمة.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد، واغفر لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، وتجاوز عنّا، وهب لنا رحمة واسعة جامعة نبلغ بها خير الدنيا والآخرة، إله الحقّ وخالق الخلق.
“إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰوَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ”.

