خطبة الجمعة 12/08/ 1445هـ الموافق 23 فبراير 2024م جامع الإمام الصادق(ع) – الدراز
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الخطبة الأولى:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم ..
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد، ما أحمدك وأمجدك، وأجودك وأكرمك، وأرأفك وأرحمك، وأعلاك وأقربك، وأقدرك وأقهرك، وأوسعك وأفضلك، وأثبتك وأثوبك، وأحضرك وأخبرك، وألطفك وأعلمك، وأشكرك وأحلمك، وأجل ثناءك، وأتمّ ملكك، وأمضى أمرك، وما أقدم عزّك، وأعزّ قهرك، وأمتن كيدك، وأظهر (أغلب) مكرك، وأقرب فتحك، وأدوم نصرك، وأقدم شأنك، وأحوط ملكك، وأظهر عدلك، وأعدل حكمك، وأوفى عهدك، وأنجز وعدك، وأكرم ثوابك، وأشدّ عقابك، وأحسن عفوك، وأجزل عطاءك، وأشدّ أركانك، وأعظم سلطانك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نزعت عن إخلاص الطويّ، ونطق اللسان بها عبارة عن صدق خفيّ، أنّه الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى، ليس كمثله شيء، إذ كان الشيء من مشيّته، وكان لا يشبهه مكوِّنُه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، استخلصه في القدم على سائر الأمم.
اللهم ندبت المؤمنين إلى أمر بدأت فيه بنفسك وملائكتك، فقلت:(إِنَّ ٱللَّهَوَمَلَٰائِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا).
«اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ شَجَرَةِ النُّبوَّةِ وَمَوضِعِ الرِّسالَةِ وَمُختَلَفِ المَلائِكَةِ وَمَعدِنِ العِلمِ وَأهلِ بَيتِ الوَحيِ. اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الفُلكِ الجاريَةِ في اللُّجَجِ الغامرّة يأمَنُ مَن رَكِبَها وَيَغرَقُ مَن تَرَكَها المُتَقَدِّمُ لَهُم مارِقٌ وَالمُتَأخِرُ عَنهُم زاهِقٌ وَاللازِمُ لَهُم لاحِقٌ. اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الكَهفِ الحَصينِ وَغياثِ المُضطَرِّ المُستَكينِ وَمَلجَأ الهارِبينَ وَعِصمَةِ المُعتَصِمينَ. اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ صَلاةً كَثيرَةً تَكونُ لَهُم رِضاً وَلِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ أداءً وَقَضاءً بِحَولٍ مِنكَ وَقوَّةٍ يا رَبَّ العالَمينَ.
اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الطَيِّبينَ الأبرارِ الأخيارِ الَّذينَ أوجَبتَ حُقوقَهُم وَفَرَضتَ طاعَتَهُم وَوِلايَتَهُم.
ثمّ “يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٌ مَا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚإِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”- الحشر: ١٨-، وتقواه سبحانه والتزام أوامره ونواهيه وموافقتها هو خير وأفضل ما يقدّمه العبد لغده؛ قال جلّ وعزّ: “.. وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَا أُوْلِي ٱلۡأَلۡبَابِ”- البقرة: ١٩٧-.
ثمّ إنّا جميعاً على أبواب ذكرى ولادة وليّ الله الأعظم، بقيّة الله في أرضه، إمام الزمان، الحجّة بن الحسن القائم المهدي (عجّل الله فرجه وسلام الله وصلواته عليه وعلى آبائه الطاهرين المعصومين)، وأسمى آيات التهاني والتبريك والأمل بهذه المناسبة أزفّها إليكم وإلى عامّة المؤمنين والمستضعَفين.
[علاقتنا بصاحب الزمان (عليه السلام)]
وأغتنم هذه المناسبة الميمونة الكريمة للحديث عمّا ينبغي أن تكون عليه علاقتنا وصلتنا وارتباطنا بصاحب الذكرى (أقرّ الله أعين أهل الإيمان بسلامته) وذلك بعد مقدّمة عن طبيعة غيبته وواقعها في ضوء كتاب الله سبحانه وما انتهى إلينا عن سادتنا وأئمتنا الهادين المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، فقد قال الله فيما اقتصّ من خبر يوسف الصدّيق (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام): “وَجَآءَ إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥمُنكِرُونَ” يوسف: ٥٨-، فرغم خلطتهم به لم يهتدوا إلى معرفته، وليس ذلك لطولالعهد بين رؤيتهم له في صباه ورؤيتهم له بعد الأربعين؛ إذ تبقى معه الملامح ولو جزئياً، كما بين الولد وأبيه، فتعرف كونه ابن فلان؛ لتوفّره على شبهه رغم فارق السنّ بينهما، إذن لم يعرفوا أخاهم يوسف لتدخّل غيبيّ، واستمرت عدم معرفتهم به إلى أن عرّفهم بشخصه- كما سيأتي إن شاء الله-، وهذا ما يسمّيه العلماء بغيبة العنوان دون الشخص.
وقد استفاض عن أئمتنا (عليهم السلام) أنّه: في صاحب هذا الامر أربع سنن من أربعة أنبياء، سنة من موسى، وسنة من عيسى، وسنة من يوسف، وسنة من محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، فأما من موسى فخائف يترقب، وأما من عيسى فيقال له: إنه مات ولم يمت، وأمّا من يوسف فالغيبة وفي بعض الأخبار: الستر، يجعل الله بينه وبين الخلق حجابا، يرونه ولا يعرفونه، وأما سنة من محمد (صلى الله عليه وآله) فيهتدي بهداه ويسير بسيرته.
وروى رئيس المحدّثين الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) في كتابيه: (إكمال الدين: ١٧٢ ح١١) و(علل الشرائع: ٢٤٤ ب١٧٩ ح٣) بسند معتبر- في وجهٍ-، واللفظ للأوّل عن سدير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:” إنّ في القائم سنّةً من يوسف- ثمّ قال- إنّ إخوة يوسف كانوا أسباطا أولاد أنبياء تاجروا يوسف وبايعوه وهم إخوته وهو أخوهم فلم يعرفوه حتى قال لهم: “أنا يوسف وهذا أخي”.
إذن فطبيعة غيبتهما (عليهما السلام) ليست غيبة انقطاع، وكما جاء في دعاء الندبة المبارك: “بِنَفسي أنتَ مِن مُغَيَّبٍ لَم يَخلُ مِنّا، بِنَفسي أنتَ مِن نازِحٍ ما نَزَحَ عَنّا بِنَفسي”، فيكون معنى (وَلا تُرى) في فقرة سابقة على هذه الفقرة : “عَزِيزٌ عَلَيَّ أن أرَى الخَلقَ وَلا تُرى” عدم الرؤية حيث تشخّصه وتنتهي إلى معرفته.
وروى الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) في كتابيه: (من لا يحضره الفقيه٢: ٢٠٥) و(إكمال الدين: ٤٦٨ ب٤٣ ح٨) بسند صحيح عن محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أنه قال: “والله إن صاحب هذا الامر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه”.
وبعد هذه المقدّمة ننتقل إلى موضوع البحث، وهو علاقتنا بصاحب الزمان (عليه السلام وعجّل الله فرجه)، والنحو الّذي ينبغي أن تكون عليه مستطرقين نحو التعاطي الّذي اتفق من يعقوب النبيّ اتجاه ابنه يوسف الصدّيق (عليهما السلام) في غيبته عنه، وقد أوضح الكتاب العزيز ذلك في ثلاث آيات مبيِّنات متتاليات- يوسف: ٨٤- ٨٦-:
الآية الأولى: “وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡعَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيم”، فأبدى أسفه على غيبة يوسف عنه، ولازم البكاء حزناً عليه وعلى بُعده عنه، وقد تسبّب ذلك في ذهاب بصره، (وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ)، كيف لا؟! وقد كان يكتم حزنه ولا يبثه غيره، وقد روى الصدوق (رضي الله عنه) في كتابيه: (الخصال)، و(الأمالي: ٢٠٤ المجلس٢٩ ح٥) بسندين صحيح ومعتبر عن محمد بن سهل البحراني يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “البكّاءون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، وعليّ بن الحسين (عليه السلام)- إلى أن قال- وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له: (تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين)..”.
الآية الثانية: “قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَالِكِينَ”، فهو لا ينفك ذاكراً ليوسف وواجداً عليه بحيث يخاف عليه أن يشرف على الهلكة أو يكون من الهالكين.
الآية الثالثة: “قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُو بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ”.
والبثّ هو عظيم الحزن الّذي لا يصبر عليه حتى يبثّ إلى الناس، ورغم ذلك لم يبثّه إلا إلى الله سبحانه مؤمّلاً فرجه.
من هذا نخلص إلى أنّ ما ينبغي أن يكون عليه حالنا مع إمامنا المغيّب عنّا الّذي وإن كنّا لا نُعدم خيره وبركاته؛ إذ هو من هذه الجهة مثلما ورد: “كالشمس إذا جلّلها السحاب”، إلا أنّ غيبته تفوّت علينا خيره الواسع وبركاته الكثيرة، ويلحّ على شائقيه فقده على حدِّ ما يجدهالظمآن الّذي تتوق نفسه إلى الماء، وقد لا يبردّ غَلّته إلا عذبه وبارده، فيردّدون: “مَتى نَرِدُ مَناهِلَكَ الرَّوِيَةَ فَنَروى، مَتى نَنْتِفِعُ مِن عَذبِ مائِكَ فَقَد طالَ الصَّدى”، بل يجدون أنفسهم في عداد الموتى بدونه، فبه حياتهم، فإذا ما ظهر تنفّسوا حياة الكرامة، وما سواها ليست حياة، بل هي زيف وزخرف حياة، فيتطلّبونه نادبين: “أينَ مُحيي مَعالِمِ الدِّينِ وَأهلِهِ”.
وكيف لهم أن يصدّقوا بكونهم أحياءً وهم على بيّنة من انحسار كتاب الله وحدوده وأحكامه من حياتهم؟! وكيف لهم أن يصدّقوا بكونهم أحياءً وهم على بيّنة من إقصاء ما شرّعه لهم ولإصلاحهم ومصلحتهم من مناحي حياتهم؟! وكيف لهم أن يصدّقوا بكونهم أحياءً وهم على بيّنة من تشويه ما فرضه الله وما سنّه رسوله (صلّى الله عليه وآله)؟! لذا نراهم يتلهّفون لوجود مؤمَّلهم بينهم ويستدعونه بأيقونتهم الإيمانيّة: “أينَ المُدَّخَرُ لِتَجدِيدِ الفَرائِضِ وَالسُّنَنِ، أينَ المُتَخَيَّرُ لإعادَةِ المِلَّةِ وَالشَّرِيعَةِ، أينَ المُؤَمَّلُ لإحياءِ الكِتابِ وَحُدُودِهِ”.
ثمّ إنّ المؤمن حيث يتقاذفه الظلم وينتهبه الهوان، ويستولي عليه العدوان والطغيان، ولا يجد محيصاً ومتنفّساً، فيلوذ ويتعلّق بالسبب والحبل المتصل أبداً بالسماء، ويناجيه مرّةً ويناديه أخرى:”أينَ المُعَدُّ لِقَطعِ دابِرِ الظَّلَمَةِ، أينَ المُنَتَظَرُ لإقامَةِ الأمتِ وَالعِوَجِ، أينَ المُرتَجى لإزالَةِ الجَورِ وَالعُدوانِ.. أينَ مُبِيدُ العُتاةِ وَالمَرَدَة، أينَ مُستَأصِلُ أهلِ العِنادِ وَالتَّضلِيلِ وَالإلحادِ، أينَ مُعِزُّ الأولياءِ وَمُذِلُّ الأعداء”.
ثمّ إنً الأنكى والأكثر إلحاحاً بالألم على نفوس المؤمنين أن يشهدوا ويروا عِياناً تمدّد الشرك وعربدة الفسوق وتمكّن الزيغ والأهواء واعتماد الكذب والافتراء، فلا يقرّ لهم قرار ولا تهدأ نفوسهم دون أن يرفعوا شكواهم إلى موئلهم، فيبثونه ما حلّ بهم: “أينَ هادِمُ أبنِيَةِ الشِركِ وَالنِّفاقِ، أينَ مُبِيدُ أهلِ الفُسُوقِ وَالعِصيانِ وَالطُّغيانِ، أَيْنَ حاصِدُ فُروعِ الغَيِّ وَالشِّقاقِ، أَيْنَ طامِسُ آثارِ الزَّيْغِ وَالاَهْواءِ، أينَ قاطِعُ حَبائِلَ الكِذبِ وَالافتِراءِ”.
وفي ضوء هذا وغيره- وهو كثيرٌ- فالحزن والأسى لغيبة وفراق وليّ نعمتنا ومعقد آمالنا وإمام زماننا نتيجةٌ طبيعيّة، كما أنّ جَيَشَان النفس وغليانها بالحزن المفضي إلى البكاء والبكاء المرّ على حرماننا رؤيته والأنس بلقائه- هو الآخر- نتيجةٌ طبيعيّة. كما لا عجب ولا غرابة من المؤمن إذا ما أخذ الشوق والحنين منه إلى معتصَمه وغياثه مأخذاً تيّمه وهيّمه فيه وأهامه على وجهه، كما يتفق لبعض الصالحين والأولياء، فيخاطبه بالندبة الواردة عن إمامنا أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): “سيدي غيبتك نفت رقادي، وضيّقت علَيّ مهادي، وابتزّتمنّي راحة فؤادي”- كمال الدين: ٣٨١ ب٣٣ ح٥٠-، أو يخاطبه بما في دعاء الندبة المبارك: “إلى مَتى اُحارُ فِيكَ يا مَولايَ وَإلى مَتّى، وَأيُّ خِطابٍ أصِفُ فِيكَ وَأيُّ نَجوى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أن اُجابَ دُونَكَ وَأُناغى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أن أبكِيَكَ وَيَخذُلَكَ الوَرى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أن يَجرِيَ عَلَيكَ دُونَهُم ماجَرى، هَل مِن مُعينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ العَوِيلَ وَالبُكاءَ، هَل مِن جَزُوعٍ فَأُساعِدَ جَزَعَهُ إذا خَلا، هَل قَذِيَت عَينٌ فَساعَدَتها عَيني عَلَى القَذى”.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد، “اللهُمَّ صَلِّ عَلى نُورِكَ وَسِراجِكَ وَوَلِيِّ وَلِيِّكَ وَوَصِيِّ وَصِيِّكَ وَحُجَّتِكَ عَلى خَلقِكَ”، “وَصَلِّ عَلَيهِ صَلاةً لاغايَةَ لِعَدَدِها وَلانِهايَةَ لِمَدَدِها وَلا نَفادَ لأمَدِها، اللهُمَّ وَأقِم بِهِ الحَقَّ وَأدحِض بِهِ الباطِلَ وَأدِل بِهِ أولياءَكَ وَأذلِل بِهِ أعداءَكَ”، “وَامنُن عَلَينا بِرِضاهُ وَهَب لَنا رَأفَتَهُ وَرَحمَتَهُ وَدَعاءَهُ وَخَيرَهُ ما نَنالُ بِهِ سَعَةً مِن رَحمَتِكَ وَفَوزاً عِندَكَ، وَاجعَل صَلواتِنا بِهِ مَقبُولَةً وَذُنُوبَنا بِهِ مَغفُورَةً وَدُعاءَنَا بِهِ مُستَجاباً، وَاجعَل أرزاقَنا بِهِ مَبسُوطَةً وَهُمُومَنا بِهِ مَكَفِيَّةً وَحَوائِجَنا بِهِ مَقضِيَّةً”
واغفر لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم، اللهم إنّا نحبّ محمّداً وآل محمّد فاحشرنا معهم، اللهم إنّا نحبّ عمل محمّد وآل محمّد فأشركنا في عملهم، وأحينا محياهم، وأمتنا مماتهم، وتوفّنا على ملّتهم ودينهم، اللهم أرنا في آل محمّد (عليهم السلام) ما يأمَلون، وفي عدوّهم ما يحذرون، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وأحلل غضبك بالقوم الظالمين.
ثم إن أحسن القصص وأبلغ الموعظة وأنفع التذكّر كتاب الله (عزّ وجلّ). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم “بسم الله الرحمن الرحيم – إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ – فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ – إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ”
……………………………………………………………………
الخطبة الثانية
اللهم إني أحمدك حميدا، وأتوكل عليك وحيدا، وأستغفرك فريدا، وأشهد أن لا إله إلا أنت، شهادة أفني بها عمري، وألقى بها ربي، وأدخل بها قبري، وأخلو بها في لحدي، وأونس بها في وحدتي، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وآله صلاةً تشفع لي يوم نشري وحشري ويوم فقري وفاقتي.
أيّها المؤمنون والمؤمنات أوصيكم ونفسي بتقوى الله، “واجعلوا قلوبكم بيوتا للتقوى، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات”، والتقوى آسرة الشهوات وكابحةٌ لجُماحها، ومأوى الشهوات من القلوب مخطوف لها، لا تَحِلّه التقوى.
اللهم صلّ على محمد خاتم النبيّين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عَليٍّ أميرِ المُؤمِنينَ وَوَصيِّ رَسولِ رَبِّ العالَمينَ وعَلى الصِّدّيقَةِ الطَّاهِرَةِ فِاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِساءِ العالَمينَ، وَصَلِّ عَلى سِبطَي الرَّحمَةِ وَإمامَي الهُدى الحَسَنِ وَالحُسَينِ، وَصَلِّ عَلى أئِمَّةِ المُسلِمينَ عَليِّ بنِ الحُسَينِ وَمُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ وَجَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ وَموسى بنِ جَعفَرٍ وَعَليِّ بنِ موسى وَمُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ وَعَليِّ بنِ مُحَمَّدٍ وَالحَسَنِ بنِ عَليٍّ وَالخَلَفِ الهادي المَهدي، حُجَجِكَ عَلى عِبادِكَ وَاُمَنائِكَ في بِلادِكِ صَلاةً كَثيرَةً دائِمَة.
اللهُمَّ وَصَلِّ عَلى وَليِّ أمرِكِ القائِمِ المُؤَمَّلِ وَالعَدلِ المُنتَظَرِ وَحُفَّهُ بِمَلائِكَتِكَ المُقَرَّبينَ وَأيِّدهُ بِروحِ القُدُسِ يا رَبَّ العالَمينَ, اللهم واحفظ وسدّد وأيّد نوّابه بالحقّ، والفقهاء العدول، والعلماء العاملين.
أمّا بعد أيّها الملأ الكريم من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في هذا المقام في عنوانين ثلاثة:
العنوان الأوّل: فعاليات دعاء الندبة:
إنّ الإسلام منظومة غير قابلة لئن تجزّأ، والإمامة من منظومة الإسلام في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، كما أنّ الاعتقاد بإمامة الأئمّة الاثني عشر بلا زيادة عليهم ولا نقيصة منهم- الّذين خاتمهم إمام الزمان الحجّة بن الحسن المهدي القائم (عجّل الله فرجه)- هو من تلك المنظومة، وأنّ التمسّك بهم- إلى جانب التمسك بكتاب الله- هو المُؤمّن من الضلال بموجب حديث الثقلين المتواتر نقله من طرق الفريقين عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: “إنّى تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي؛ فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيّ الحوض”، لذا اؤكّد على فعاليات دعاء الندبة المبارك الّتي تعمد إلى تعميق الارتباط والعلاقة بإمام الزمان (عليه السلام)، وتبيّن نهجه ومن ارتضاهم مرجعيّة يقومون مقامه، ويؤدّون عنه. وأشدّد على الشباب في إنجاحها بتكثير السواد في حضورها والاستفادة منها.
العنوان الثاني: “كونا للظالم خصماً، وللمظلوم عونا”- نهج البلاغة-:
في أيّ مساحة ودائرة وحيث يوجد ظالم ومظلوم فالوظيفة- ولا غير- هي اتّخاذ الظالم خصماً وعدوّاً، وإعانة ومعاضدة ونصرة المظلوم. وأمّا الحياد فهو تخلٍّ عن الوظيفة والمسؤولية، ويعرب عن استكانة وخنوع للظالم، وعن خذلانٍ وإدارةٍ للظهر للمظلوم وما أقبح ذلك. وأمّا إعانة الظالم فهو شَرِكَةٌ في الظلم وهو المنكر البواح والجرم المبيّن. وفي الصراع بين المحتلّ الصهيوني الغاشم والظلوم وبين إخوة الدين ومسلوبي الحقوق في فلسطين الإباء وغَزّةَ العِزّة لا يسعني ولا يسعك في دين الله إلا نصرة المظلوم ونجدته وإغاثته؛ قال سبحانه: “..وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ..”- الأنفال: ٧٢-، والعقلاء بمختلف أعراقهم وأجناسهم وألوانهم وقومياتهم وأعرافهم ومبادئهم مطبقون لا يختلف اثنان منهم على لازم عون المظلوم ونصرته وشدّ عضده.
والنصرة من كلّ أحد بحسبه فللشعوب نصرتها، ومن أدوات نصرتها اعتماد المقاطعة لمنتجات الشركات الداعمة للصهاينة المعتدين واستمرار المقاطعة والتزامها بلا هوادة وتسامح. وللحكومات- هي الأخرى- نصرتها، وقد عمدت دولة جنوب أفريقيا إلى رفع دعوى بالإبادة الجماعيّة ضد كيان الاحتلال، وعمدت البرازيل إلى طرد سفير كيان الاحتلال وسحب سفيرها من تل أبيب، وتكفي نصرة هاتين الحكومتين حجّة على حكومات المسلمين ومزدجراً لها عمّا هي عليه من الصمت والموادعة لكيان الاحتلال السفّاك للدماء.
العنوان الثالث: الوجه الحقيقيّ لأمريكا والغرب:
لطالما انطلى نفاق أمريكا- وكذا الغرب عموماً- على ضعفاء العقول بشعاراتها البرّاقة كالحريّة والديموقراطية وما إليهما، ولطالما تدّثرت وغيّبت وجهها القبيح بمطالباتها بحقوق الإنسان، ولكنّ غزّة الشموخ قد اسقطت عن وجه أمريكا كلّ الأقنعة، وما عاد من شيء يخفي نفاقها على أحد أو يطيل أمده، وانكشف إفلاسها أخلاقياً وثقافياً، وانكشفت بتبعه تمام منظومتها الفكريّة، وما عاد لها شيء يضاف إلى الحضارة سوى ما يتصل بالمادّة ويشدّ الإنسان إلى الأرض. فها هي أمريكا وللمرة الثالثة تعترض بالڤيتو على مشروع قرار لمجلس الأمن الدُوَليّ بالإيقاف الفوري لإطلاق النار في غزّة، وهو ما يعطي ذريعة للكيان المؤقّت للإمعان في القتل والإبادة الجماعيّة، وهو ما يعكس بوضوح أنّ أمريكا قاتل كما الصهيونيّ المجرم، ثمّ لماذا القتل والإبادة؟ وهل ما سيق من تبرير لهما عقلائيّ؟ أم ليس إلا العنجهيّة والهمجيّة والطغيان؟! وها هو الغرب- هو الآخر يكشّر عن أنيابه ويسفر عن وجهه الكالح- وبمعيّة أمريكا، فقد تحزّب لنجدة الكيان اللقيط وإنقاذ اقتصاده، وأجمعوا أمرهم في محاولة لتمرير البضائع والمنتجات إلى الكيان الصهيونيّ عبر البحر الأحمر وبحر العرب غير مبالٍ بما يسفك من الدم الحرام.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمن له حقّ علينا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، وتجاوز عنّا، وهب لنا رحمة واسعة جامعة نبلغ بها خير الدنيا والآخرة، واشفِ مرضانا، وردّ غرباءنا، وفكّ أسرانا، إله الحقّ وخالق الخلق.
“إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ”.

