خطبة الجمعة للشيخ علي الصددي 07/4/ 1446هـ الموافق 11 أكتوبر 2024م جامع الإمام الصادق(ع) – الدراز
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الخطبة الأولى:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الولي الحميد الحكيم المجيد الفعال لما يريد علاّم الغيوب وستار العيوب، خالق الخلق ومنزل القطر ومدبر الأمر، رب السماء والأرض والدنيا والآخرة وارث العالمين وخير الفاتحين الذي من عظم شأنه أنه لا شئ مثله تواضع كل شئ لعظمته وذل كل شئ لعزته واستسلم كل شئ لقدرته وقر كل شئ قراره لهيبته وخضع كل شئ من خلقه لملكه وربوبيته الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وأن تقوم الساعة ويحدث شئ إلا بعلمه، نحمده على ما كان ونستعينه من أمرنا على ما يكون ونستغفره ونستهديه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ملك الملوك وسيد السادات وجبار السماوات والأرض الواحد القهار الكبير المتعال ذو الجلال والاكرام ديان يوم الدين ربنا ورب آبائنا الأولين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله داعيا إلى الحق وشاهدا على الخلق، صلّى الله عليه وآله.
عباد الله وإماءه وأهل طاعته، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل بطاعته، واجتناب معصيته؛ فإنه “مَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا”، “وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَالٗا مُّبِينٗا”.
أمّا بعد فالحديث في هذا المقام في عنوانين:
العنوان الأوّل: نفع الإخوان:
ومنطلق الحديث حول هذا العنوان هو الكلمة المأثورة عن إمامنا أبي الحسن العسكري (صلوات الله عليه) الّذي تصادف ذكرى ولادته الميمونة يوم غد (السبت)، الثامن من ربيع الثاني، فقد روى الشيخ الأقدم ابن شعبة الحرّانيّ (رحمه الله) في كتابه (تحف العقول عن آل الرسول) عنه (عليه السلام) أنّه قال: “خصلتان ليس فوقهما شيء: الإيمان بالله، ونفع الاخوان”.
وبين يدي الحديث في هذا العنوان أزفّ إليكم ولعامّة أهل الإيمان والولاء مقدّماً أسمى آيات التهاني والتبريك بذكرى ولادته المباركة.
ثمّ واضح هذه الكلمة مدى خطورة وأهمّيّة نفع الإخوان، فقد أحلّ الإمام (صلوات الله عليه) هذه الخصلة ثانية اثنتين ليس فوقهما شيء من الخصال، فلا شيء غير الإيمان بالله يفوق نفع الإخوان وقضاء حوائجهم والسعي فيها وتفريج كرباتهم، والتنفيس عنهم.
وقد تكثّرت الروايات واستفاضت وتعاضدت في التحضيض والحثّ عليه والترغيب فيه والترهيب عن تركه، ونعرض جملة من تلك الروايات مع الإضاءة على بعض النقاط فيها، فمنها مارواه ثقة الإسلام الشيخ الكلينيّ (رضي الله عنه) في كتابه (الكافي) بسند معتبر، عن المفضّل عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي: “يا مفضّل، اسمع ما أقول لك، واعلم أنّه الحقّ، وافعله، وأخبر به علية إخوانك”، قلت: جعلت فداك، وما علية إخواني؟ قال: الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم، قال: ثم؟ قال: “ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله عزّ وجلّ له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك، أوّلها الجنّة، ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنّة بعد أن لا يكونوا نصّابا، وكان المفضل إذا سأل الحاجة أخاً من إخوانه قال له: أما تشتهي أن تكون من علية الإخوان”. ومنها ما رواه بسند معتبر عن صدقة الأحدب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “قضاء حاجة المؤمن خير من عتق ألف رقبة، وخير من حُمْلان ألف فرس في سبيل الله”.ومنها مارواه بسند معتبر عن أبي الصباح الكنانيّ قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): “لقضاء حاجة امرئ مؤمن أحبّ إليّ [الله] من عشرين حجّة، كلّ حجّة ينفق فيها صاحبها مائة ألف”.
ومنها مارواه بسند صحيح، عن زيد الشحام قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: “من أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهثان [واللهفان هو المكروب، واللهثان هو العطشان أو من أخرج لسانه عطشاً أو إعياءً أو تعباً، وهو هنا كناية عن شدّة حاجته وعظم كربته] عند جَهْده، فنفّس كربته وأعانه على نجاح حاجته- كتب الله عزّ وجلّ له بذلك ثنتين وسبعين رحمة من الله، يعجِّل له منها واحدةً يصلِح بها أمر معيشته، ويدخِّر له إحدى وسبعين رحمة لأفزاع يوم القيامة وأهواله”.
ومنها ما رواه بسند صحيح عن أبي أيوب الخزّاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “من سعى في حاجة أخيه المسلم طلبَ وجه الله كتب الله عزّ وجلّ له ألف ألف حسنة [وهنا ننبّه إلى أنّه قد يتفق منّا السعي في حاجة المؤمن؛ ولكن لأجل إيمانه ولوجه الله سبحانه، بل لقرابته منّا أو معرفتنا به أو لغيرهما الاعتبارات وما أكثرها بحيث لو طلب قضاء الحاجة منّا مؤمن لا يحمل واحداً من الاعتبارات الإضافيّة على إيمانه لتقاعدت عن قضائها وتعلّلت لعدم قضائها بذريعة وأخرى ما يعني أنّ قضاءها لمؤمن ليس طلباً لوجه الله سبحانه وإلا لما تخلّف قضاؤه بينه وبين غيره من المؤمنين]، يُغفر فيها لأقاربه وجيرانه وإخوانه ومعارفه ومن صنع إليه معروفا في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل له: ادخل النار فمن وجدته فيها صنع إليك معروفا في الدنيا فأخرجه بإذن الله عزّ وجلّ إلا أن يكون ناصبا”.ودخوله النار لا بالنحو الّذي يجد حرّها بل كما هو في قول الله سبحانه: “وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ ..”- مريم: ٧١-، فيطوف بها وهي تحته، ويشرف على من فيها.
ومنها ما رواه بسند معتبر عن إبراهيم الخارقي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: “من مشى في حاجة أخيه المؤمن يطلب بذلك ما عند الله حتى تقضى له كتب الله عزّ وجلّ له بذلك مثل أجر حجّة وعمرة مبرورتين، وصوم شهرين من أشهر الحرم واعتكافهما في المسجد الحرام”، ثمّ رغّب (عليه السلام) في السعي في حاجة المؤمن، فذكر ثوابه وإن لم تقض حاجته ما دام قد تقرّب بسعيه إلى الله وطلب ما عنده سبحانه، فقال (عليه السلام): “ومن مشى فيها بنيّة [وهو التقرّب إلى الله سبحانه]، ولم تقض كتب الله له بذلك مثل حجّة مبرورة، فارغبوا في الخير”.
ومن الروايات ما رواه بسند معتبر- في وجه- عن إسماعيل بن عمّار الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، المؤمن رحمة على المؤمن؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذاك؟ قال: “إيّما مؤمن أتى أخاه في حاجة فإنّما ذلك رحمة من الله ساقها إليه وسبّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها فإنما ردّ عن نفسه رحمةً من الله عزّ وجلّ ساقها إليه وسبّبها له”، ثمّ أخذ الإمام (عليه السلام) في ذكر ما يمتصّ به وقع الردّ من نفس المردود عن حاجته، أو يخفّف منه، فتسكن وتطيب نفسه، فقال (عليه السلام): “وَذَخَرَ اللهُ عزّ وجلّ تلك الرحمة إلى يوم القيامة حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكمَ فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه، وإن شاء صرفها إلى غيره، يا إسماعيل فإذا كان يوم القيامة- وهو الحاكم في رحمة من الله قد شرعت له- فإلى من تَرى يصرفها؟” قلت: لا أظنّ يصرفها عن نفسه، قال: “لا تظنّ ولكن استيقن فإنّه لن يردّها عن نفسه”، ثمّ بيّن (عليه السلام) عقوبة عدم قضاء حاجة المؤمن مع القدرة على قضائها، فقال: “يا إسماعيل من أتاه أخوه في حاجةٍ يقدر على قضائها فلم يقضها له سلّط الله عليه شُجاعا ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة، مغفورا له أو معذّبا”.
إذن حتى لو ختم للمؤمن بغفران ذنوبه وعدم مؤاخذته عليها في الآخرة إلا أنّه لا يسلم في عالم البرزخ في قبره من عقوبة عدم قضاء حاجة أخيه المؤمن مع قدرته على قضائها حيث يكون قضاؤها لازماً عليه.
وفي رواية أخرى في بيان نفس تلك العقوبة، قال: “وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلط الله عليه شجاعا من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة، مغفورا له أو معذّبا، فإن عذّره الطالب كان أسوء حالا”.
فالشجاع من نار، والنهش منه لا لخصوص إبهامه، وسيكون أسوء حالاً في فرض ما إذا عذّره طالب الحاجة فلم يعتب عليه مثلاً ليستوفي بعض عقوبة ردّ الحاجة وعدم قضائها، فيستوفي عقوبته غير منقوصة بعد حياته، هذا احتمال، ومن الاحتمالات أنّه لو عاتبه ندم واستغفر، ولكنّه لو عذّره لم يلتفت إلى تقصيره ليندم منه ويتوب، فيستوفي عقوبة ردّ حاجة أخيه كاملة.
العنوان الثاني: كرامات القتل في سبيل الله سبحانه:
وحديثنا في هذا العنوان- في ظلّ قول الله سبحانه:”..وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ”-محمّد:٤-٦.
فهذا المقطع القرآنيّ المبارك يبشّر الله فيه من قتل في سبيله، ويعدهم بأربع بشارات وعدات، ووعده سبحانه غير مكذوب؛ ومن أصدق من الله قيلاً وحديثا، وقبل أن نستعرض هذه البشارات نقف وقفةً لنبيّن بأنّ القتال في سبيل الله فريضة كالصلاة؛ قال الله سبحانه: “وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَسَمِيعٌ عَلِيمٞ”- البقرة: ٢٤٤-.
ونقف وقفة أخرى لنستجلي معنى سبيل الله ودائرة القتل في هذا السبيل، فأمّا سبيل الله فهو طريقه وما فيه رضاه، فدائرة القتل في سبيل الله ما إذا اتفق ذلك وكان المقتول في قتال مشروع، وقد بيّن الفقهاء موارد مشروعيّة القتال، وثمّة موارد ذكرها الكتاب العزيز، أقتصر على ذكر موردين منها:
المورد الأوّل: ما إذا فرض العدو علينا الحرب وأخذ في قتالنا؛ قال الله سبحانه: “وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ”- البقرة: ١٩٠-.
المورد الثاني: من موارد مشرعيّة القتال ما إذا أجلانا العدو عن ديارنا واحتلّ أرضنا وأحكم سلطته علينا؛ قال الله سبحانه: “..قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبۡنَآئِنَاۖ ..”- البقرة: ٢٤٦-.
إذن حيث يكون الجهاد والقتال مشروعاً واتّفق القتل فهو قتل في سبيل الله الّذي هو الموضوع في المقطع القرآني حيث يقول: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
ثم إنّ عنوان: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) عنوان عامّ لا يقف عند أشخاص بأعيانهم كالحمزة بن عبد المطّلب عمّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله)، وجعفر الطيّار، وليس منحصراً فيهما، كما إنه ليس لزمان كزمان النبيّ (صلئ الله عليه وآله)، بل هو لكلّ زمان، كما إنّه ليس خاصّاً برقعة جغرافيّة دون أخرى.
[البشارات الإلهيّة لمن يقتل في سبيل الله:]
وبعد كلّ ما تقدّم فلنأخذ في استعراض ما بشّر الله به الّذين قتلوا في سبيله، وما وعدهم به، حيث قال سبحانه في الآية الأولى من المقطع القرآنيّ:(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ)، وقال سبحانه قبل ذلك في الّذين كفروا: “ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعۡمَالَهُمۡ”-محمد: ١، وإضلال الشيء إضاعته، وإضلال الأعمال إبطالها وإحباط ثوابها، فـ (أَضَلَّ أَعۡمَالَهُمۡ) معناه لـم يُجازهم علـى ما عَمِلوا من خيرٍ كصلة الرحم، وقرى الضيف، وفك الأسير، وإجارة المستجير، وإطعام اليتيم، وغير ذلك من المكارم.
وفي ضوء ذلك فقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) يفيد قبول الله لأعمالهم الخيّرة وإثابتهم عليها، وأنّ صلاح الأعمال في حدّ نفسه يؤذن بقبولها منهم ومجازاتهم عليها من دون قيود أخرى، وهذه المزيّة من كرامات الله الخاصّة بمن قتل في سبيله سبحانه ومواهبه لهم، وليست عامّة لمطلق المؤمنين؛ فقد قال الله عنهم في مقابل ما قاله فيمن قتل في سبيله: “وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٖ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡ كَفَّرَ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَأَصۡلَحَ بَالَهُمۡ- محمد: ٢-، فذكر ما هو مشترك بينهم وبين من قتل في سبيله، وهو إصلاح البال، ولم يذكر لهم تلك الكرامة والموهبة. ثمّ ذكر المقطع القرآنيّ كرامة وموهبة أخرى من كرامات الله بمن قتل في سبيله ومواهبه لهم، فقال: (سَيَهْدِيهِمْ)، وقد أفيد في متعلّق الهداية بأنّ الله سيهديهم إلی منازل السعادة والكرامة، وذلك بعد استشهادهم وقبل القيامة، فهم مهديون، وما أعظمه من مقام.
ثمّ ذكر المقطع القرآنيّ كرامة وموهبة ثالثة من الله لمن يقتل في سبيله، فقال سبحانه:(وَيُصْلِحُ بالَهُمْ)- وهو صلاح شأنهم وحالهم بالمغفرة والعفو عن سيئاتهم، فيعودون صالحين لدخول الجنة، هذا وغيرهم من سائر المؤمنين وإن امتنّ الله عليهم بصلاح بالهم كما قال سبحانه: “وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٖ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡ كَفَّرَ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَأَصۡلَحَ بَالَهُمۡ” إلا أنّه صلاح لحالهم على مستوى دنياهم.
وأخيراً ذكر المقطع القرآنيّ كرامة وموهبة إلهيّة لمن يقتل في سبيل الله سبحانه، فقال: “وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ”، فلا منتهى لهم دون جنّة الرضوان الّتي وعدهم إياها، وفتحهم عليها وعلى خيراتها فكأن قد رأوها، أو أنّ جذر كلمة (عرّفها) هو العرْف- بتسكين الوسط-، وهو الطيْب، فالّذين قتلوا في سبيل الله- على هذا الاحتمال- لا يدخلهم الله سبحانه الجنّة إلا وقد طيّبها لهم، وعطّر أجواءها.
فهنيئاً لمن قتل في سبيل الله من الأنبياء والأوصياء والأولياء والصالحين كلّ تلكم الكرامات والمواهب الإلهيّة.
ثمّ كل هذا الّذي قدّمناه بناءً على القراءة المتداولة بيننا، وهي قراءة عاصم بن أبي النَّجُود، بينما قرأها الجمهور: “وَالَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ”، فموضوع تلك الكرامات والمواهب عنوان أوسع من جهة، وهو (المقاتلون)- أحياءً وأمواتا-.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وانصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، واغفر لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم، اللهم إنّا نحبّ محمّداً وآل محمّد فاحشرنا معهم، اللهم إنّا نحبّ عمل محمّد وآل محمّد فأشركنا في عملهم، وأحينا محياهم، وأمتنا مماتهم، وتوفّنا على ملّتهم ودينهم، اللهم أرنا في آل محمّد (عليهم السلام) ما يأمَلون، وفي عدوّهم ما يحذرون.
ثم إن أحسن القصص وأبلغ الموعظة وأنفع التذكّر كتاب الله (عزّ وجلّ). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم “بسم الله الرحمن الرحيم* إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجافسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّابا*.”النصر1-3
الخطبة الثانية:
اللهمّ “لك الحمد في السرّاء والضرّاء، والشدّة والرخاء، ولك الحمد على كلّ حال. اللهمّ لك الحمد كما أنت أهله ووليّه، وكما ينبغي لسبحات وجهك الكريم. الحمد لله الذي لا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، وهو بكلّ شيء عليم”.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده المصطفى ورسوله المجتبى وأمينه المرتضى أرسله بالحقّ بشيرا ونذيرا، وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة، وعبد الله حتى أتاه اليقين، فصلّى الله عليه وآله في الأوّلين، وصلّى الله عليه وآله في الأخرين، وصلّى الله عليه وآله يوم الدين.
عباد الله ألا فاتّقوا الله وأطيعوه والزموا حدوده، وحاذروا مخالفته ومعصيته، ففي معصيته الهوان والعطب والخسران.
اللهم صلّ على محمد خاتم النبيّين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عَليٍّ أميرِ المُؤمِنينَ وَوَصيِّ رَسولِ رَبِّ العالَمينَ وعَلى الصِّدّيقَةِ الطَّاهِرَةِ فِاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِساءِ العالَمينَ، وَصَلِّ عَلى سِبطَي الرَّحمَةِ وَإمامَي الهُدى الحَسَنِ وَالحُسَينِ، وَصَلِّ عَلى أئِمَّةِ المُسلِمينَ عَليِّ بنِ الحُسَينِ وَمُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ وَجَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ وَموسى بنِ جَعفَرٍ وَعَليِّ بنِ موسى وَمُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ وَعَليِّ بنِ مُحَمَّدٍ وَالحَسَنِ بنِ عَليٍّ وَالخَلَفِ الهادي المَهدي، حُجَجِكَ عَلى عِبادِكَ وَاُمَنائِكَ في بِلادِكِ صَلاةً كَثيرَةً دائِمَةً.
اللهُمَّ وَصَلِّ عَلى وَليِّ أمرِكِ القائِمِ المُؤَمَّلِ وَالعَدلِ المُنتَظَرِ وَحُفَّهُ بِمَلائِكَتِكَ المُقَرَّبينَ وَأيِّدهُ بِروحِ القُدُسِ يا رَبَّ العالَمينَ.
اللهم واحفظ وسدّد وأيّد نوّابه بالحقّ، والفقهاء العدول، والعلماء العاملين.
أمّا بعد أيّها الكرام من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في هذا المقام في عنوانين:
العنوان الأوّل: طوفان الأقصى:
مرّت بنا الذكرى السنويّة الأولى لطوفان الأقصى الّذي مرّغ أنف العدو الغاصب الصهيونيّ في الوحل، ووسم كبرياءه بالصَغار والذلّ، وأوجعه ماديّاً ومعنويّاً أيّما وجع، وحفر- ولا يزال- بكلّ خزيه وخسفه في مخياله وذاكرته، وقد كان طوفان الأقصى- وبحسب كلّ العقلاء لو تجرّدوا عمّا سوى عقولهم- نتيجة طبيعيّة للقهر والامتهان والتعسّف والظلم بحقّ الشعب الفلسطينيّ وأهل غزّة وأحرارها وغياراها، ولو كان لكيان الاحتلال وقادته بقيّة عقل وحكمة لاتّخذوا من الصفعة الأولى لطوفان الأقصى درساً، ورسموا لسياستهم نهجاً يستوعب ما اصطنعوه من أزمات وجنايات بحقّ أصحاب الأرض، ولكنّهم أمعنوا في إزهاق الأرواح وإنزال صنوف الدمار والعذاب وإلحاق الأذى بسكّان غزّة، فبعد عام من الإبادة الجماعيّة الممنهجة- وبحسب إحدى وكالات الأنباء المحلّيّة- فقد بلغ عدد الشهداء والمفقودين ما يقارب اثنين وخمسين ألفاً، من بين الشهداء ما يقارب السبعة عشر ألفاً من الأطفال، ومن بينهم ما يزيد على أحد عشر ألفا وأربعِ مائةٍ وثمانين من النساء، وبلغ عدد المفقودين عشرة آلاف مفقود، وقد بلغ عدد المعتلقين من غزّة وحدها خمسةَ آلاف معتقل، بينهم عشرات النساء والأطفال، وقد جرى تعذيبهم، وقد بلغ عدد الجرحى والمصابين ما يزيد على سبعة وتسعين ألفاً ومائة وستين جريح، والله هو المأمول للّطف بهم ونصرهم، “..وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ”- الحج: ٣٩-.
العنوان الثاني: رجال صدقوا:
في اليوم الثاني لطوفان الأقصى هبّ لبنان وجنوبه لنصرة أهل غزّة وإسنادهم ونجدتهم في صورة من الصور القرآنية للتآزر والتلاحم حيث قال: “إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ”- الصفّ: ٤-، وقد أبلوا بلاء حسناً جميلاً مباركاً، وبذلوا الكثير والنفيس في سبيل الله وعزّة الدين ومنعة المسلمين، وأرخصوا نفوساً (شهداء على طريق القدس)، وقد برهنوا بذلك بلا أدنى شكّ وريب على أنّ الوحدة الّتي ينشدونها للأمّة الإسلاميّة وأبنائها ليست قوالب لفظيّة وترويجات إعلاميّة، ولعظيم بلائهم وشديد بأسهم وبالغ نكالهم تتبّع العدو الصهيونيّ الغاشم قادتهم، وألزم نفسه تصفيتهم، وقد لبّوا نداء ربّهم شهداء أبرار، “.. صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا”- الأحزاب: ٢٣-، ثمّ لم يحسب العدو الغاشم حسابه للمرجعيّة الدينيّة وحضورها وبالغ تأثيرها وشديد حياطتها، فتغطرس وتردّى بهواه، وأطلق تهديداته ولم يحسب حسابه لأبناء المرجعيّة على سعة المعمورة، وغابت عنه معادلة عرفها غيره، وفرضت على الأرض، وهي ثنائيّة الأمّة والمرجعيّة، وأنّ قوّة كلّ منهما من قوّة الآخر، ولأجل الآخر، فَلْيَفِق العدو من سكره، ولا يتهوّر ويخاطر بنفسه في اقتحام تجربة المسّ بالمرجعيّة، فتلك هي الخطيئة الّتي لا تقال ولا تغتفر، ولا ينفع معها الندم، كيف لا؟ وهو يشهد ويكتوي بما ينزله به رجال الله، أخذاً بثأر الروح الغالية المختلسة بعمليّة جنونيّة جبانة.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمن له حقّ علينا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، وتجاوز عنّا، وهب لنا رحمة واسعة جامعة نبلغ بها خير الدنيا والآخرة، واشفِ مرضانا، وردّ غرباءنا، وفكّ أسرانا، إله الحقّ وخالق الخلق.”إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ الۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ”